
حقوق منتهكة وأجساد تحت القيد: الصحة الجنسية والإنجابية في ظل العنف المسلط على النساء والفتيات في تونس
“تزوجت صغيرة… وفي البداية ظننت أن الصبر واجب، لكن بعد سنوات من الضرب أمام أطفالي، لم أعد أتحمل. عائلتي كانت تقول لي ‘اصبري’ لكنهم لم يفهموا وجعي… عندما ذهبت إلى مندوبية المرأة، شعرت لأول مرة أن هناك أمل”.
بكل ألم ومرارة تقص لنا سامية أم لثلاثة أطفال في عقدها الأربعون حكاية معاناتها وكفاحها مع زوجها الذي مارس عليها كل أشكال العنف الأسري وتحملت نرجسيته في سبيل تربية أبنائها والحفاظ على استقرار عائلتها كما أمرتها عائلتها بذلك وتفاديا لنظرة المجتمع لها كامرأة مطلقة.
سامية أصيلة ولاية قبلي التي تقع جنوب البلاد التونسية٫ هذه المدينة المحافظة كما الجنوب لا تجد فيها ضمانا لحقوق النساء والفتيات بل هن الحلقة الضعيفة دائما أمام سيطرة الرجال عليهن وعدم قدرتهن على الدفاع عن أنفسهن في وسط مجتمع ذكوري بامتياز وهن محرومات من حقوق أساسية أبرزها الحق في الصحة الجنسية والإنجابية على الرغم من وجود بعض الاستثناءات التي تتمتع فيها النساء بكرامتهن.
بين عامي 2023 و2024 سجلت ولاية قبلي وفقا لمندوبية المرأة بالجهة٫ 11 حالة من النساء تعرضن للعنف الجنسي و 48 حالة عنف لفظي وجسدي و 3 حالات عنف رقمي تدخل٬
ما هي الصحة الجنسية والإنجابية؟

الصحة الجنسية والإنجابية تُعرّف بأنها حالة من الرفاه الجسدي والعقلي والاجتماعي في جميع ما يتعلق بالجهاز التناسلي ووظائفه. وهي لا تقتصر على غياب المرض أو العجز، بل تشمل قدرة الأفراد على التمتع بحياة جنسية سليمة وآمنة، والقدرة على الإنجاب واتخاذ القرار بحرية ومسؤولية بشأن توقيته وعدده.
واقع الوعي والتمتع بالصحة الجنسية والإنجابية في تونس
رغم تقدم تونس تشريعيًّا، ما يزال وعي النساء، خصوصًا في المناطق الداخلية والمجتمعات المحافظة، محدودًا بشأن حقوقهن الصحية. الخوف من الوصم المجتمعي، وضعف التثقيف الجنسي في المدارس، وقلة الخدمات الصحية المتخصصة، كلها عوامل تعمق الفجوة بين النصوص القانونية والواقع.
العنف، بجميع أشكاله، يسهم بشكل مباشر في حرمان النساء والفتيات من التمتع الكامل بالصحة الجنسية والإنجابية. فالنساء المعنفات يُجبرن على ممارسات جنسية غير آمنة، أو يمنعن من اتخاذ قرارات تتعلق بأجسادهن، كاستخدام وسائل منع الحمل أو طلب الاستشارة الطبية. كما يؤدي العنف إلى ارتفاع حالات الحمل غير المرغوب فيه والإجهاض القسري، إضافة إلى اضطرابات نفسية تعرقل قدرتهن على العيش بكرامة.
إطار تشريعي متقدم وواقع عنيف مستمر
رغم ما حققته تونس من خطوات تشريعية ومؤسساتية رائدة في مجال حماية حقوق المرأة منها مجلة الأحوال الشخصية الصادرة في 13 أوت 1956 بعد الاستقلال مباشرة، والتي شكّلت الأساس القانوني لتحرير المرأة التونسية وجعلت من تونس نموذجًا في مجال حقوق النساء في العالم العربي٫ فإن العنف المسلط على النساء والفتيات ما زال يشكل معضلة اجتماعية خطيرة ومتفاقمة.
وعلى الرغم من صدور القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، والذي أقرّ بحق النساء في التمتع بصحة جنسية وإنجابية وحمايتهن من العنف، فإن تطبيق هذا الحق يظل محدودًا.
تتنوع أشكال العنف الموجه ضد النساء بين العنف الجسدي، والجنسي، والنفسي، والاقتصادي، وصولًا إلى العنف الرمزي والمؤسساتي. وتُظهر الإحصائيات أن العنف الزوجي يحتل المرتبة الأولى من حيث الانتشار، يليه العنف في الفضاء العام ومواقع العمل. وتبقى الفتيات القاصرات أكثر عرضة للعنف الجنسي والتحرش، في ظل ضعف التبليغ وصمت المجتمع المحيط بهن.
يقول القاضي المختص في قضايا الأسرة عمر الوسلاتي أن الإطار القانوني للصحة الجنسية والإنجابية يظل دائما منقوصا وغير أساسي في التعاطي مع القضايا مشيرا أن القانون يجرم العنف اللفظي والمادي وتظل المسائل المتعقلة بالعنف الجنسي من القضايا التي لا تلقى اهتماما كبيرا للأسف.
ويضيف قائلا ” يظل الحديث عن الصحة الجنسية والإنجابية في المجتمعات التونسية من المواضيع المسكوت عنها وتظل النساء والفتيات في حالة عدم وعي بالتغيرات الجسدية التي تحصل لهن في علاقة بالجانب الجنسي والصحي ومنها حتى التغييرات الهرمونية ومشاكل الدورة الشهرية”.
ودعا القاضي عمر الوسلاتي إلى ضرورة نشر الوعي والتوعية بأهمية الصحة الجنسية والإنجابية للنساء والفتيات قائلا «كما يتم تدريس التربية الإسلامية في المدارس لما لا يتم تدريس التربية الجنسية لتكون حصة خاصة بالتثقيف الجنسي ويتم خلالها التعرف على طريقة التعاطي مع الجسد وذلك لضمان حياة جنسية سليمة وآمنة للأفراد».
بدورها، أكّدت لنا الصحفية والباحثة في علم الاجتماع يسرى بلالي أنّ عدم تمتع النساء والفتيات بالصحة الجنسية والانجابية ناتج عن مشاكل النفاذ للصحة العمومية خاصّة أنّ العديد من المراكز الصحية باتت تعاني من نقص كبير في الأدوية وقلة آليات وموانع منع الحمل.
وأضافت أنّ الوصم الاجتماعي تجاه النساء اللاتي يرغبن في الإجهاض بات يحول دون جعلهن يقررن الإجهاض من عدمه ويفقدهن حريد الاختيار. كما أشارت البلالي إلى موضوع تجميد البويضات الغير مقنن في تونس إلا في صورة أن تكون المرأة تعاني من أمراض خطيرة مؤكدة أنّ التشريعات التونسية غير مواكبة للتطورات التي يشهدها العالم.
العنف يساهم في حرمان النساء من التمتع بالصحة الجنسية والإنجابية
يؤدي العنف المسلط على النساء والفتيات، سواء كان جسديًا أو جنسيًا أو نفسيًا، إلى تداعيات خطيرة ومركّبة على الصحة الجنسية والإنجابية. فالتعرض للعنف الجنسي، على سبيل المثال، قد يتسبب في إصابات جسدية مباشرة، وزيادة خطر الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًا، بما في ذلك فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، إلى جانب ارتفاع احتمالات الحمل غير المرغوب فيه والإجهاض القسري.

كما يؤثر العنف المستمر على قدرة النساء والفتيات على الوصول إلى خدمات الصحة الإنجابية أو المطالبة بحقوقهن الصحية بسبب الخوف أو الوصم أو السيطرة التي يمارسها المعتدي. ويمتد هذا الأثر إلى الجانب النفسي، حيث تُسجل نسب مرتفعة من الاكتئاب، والقلق، واضطرابات ما بعد الصدمة، ما يزيد من تعقيد التعامل مع قضايا الصحة الجنسية والإنجابية ويؤثر سلبًا على جودة حياة الضحايا وقدرتهن على اتخاذ قرارات حرة وآمنة بشأن أجسادهن ومستقبلهن.
تصاعد العنف بأشكاله المختلفة
تشير إحصائيات وتقارير عدة، منها تقرير جمعية “أصوات نساء“ ومنظمة الأمم المتحدة للمرأة والمعهد الوطني للإحصاء، إلى أن العنف ضد النساء في تونس يأخذ أشكالًا متعددة ومتزايدة، ويشكل تحديًا كبيرًا للمجتمع والدولة.
تشير بيانات المعهد الوطني للإحصاء إلى أن أكثر من 84% من النساء تعرضن للعنف بمختلف أشكاله، حيث يشكل العنف النفسي واللفظي النسبة الأعلى (49.3%)، يليه العنف الجنسي (15.6%) والعنف الاقتصادي (11.4%). أما العنف الزوجي فيمثل حوالي 71% من حالات العنف المسجلة، وهو الأكثر انتشارًا، ويشمل العنف الجسدي واللفظي والجنسي والاقتصادي.
كما سجلت تونس ارتفاعًا في العنف السيبراني، حيث تعرضت 38% من النساء للعنف عبر الفضاء الرقمي، وهو مؤشر خطير يعكس تطور أشكال العنف مع التكنولوجيا. بالإضافة إلى ذلك، ازدادت جرائم قتل النساء بشكل ملحوظ، حيث تضاعفت الحالات ست مرات بين 2018 و2024، مع تسجيل 27 جريمة قتل في 2023 و26 جريمة في 2024.
سجلت جمعية أصوات نساء في تقريرها السنوي الصادر في ماي 2025 حول جرائم قتل النساء في تونس 26 حالة تقتيل نساء منها 13 ضحية على يد أزواجهن و 3 ضحايا على يد آبائهن و 4 من أقاربهن و 5 ضحايا على يد مجهولين.
توصيات للحد من العنف المسلط على النساء والفتيات
إن ضعف تكوين الإطارات الصحية، ونقص الموارد البشرية والمالية المخصصة لحماية النساء، وسوء التنسيق بين الهياكل وبطء الإجراءات القضائية، كلها تحد من فاعلية القوانين المناهضة للعنف ضد النساء والفتيات وتساهم في استفحال ظاهرة العنف وتقتيل النساء ويُضاف إلى ذلك نقص الوعي المجتمعي ووجود ثقافة تبرر العنف أو تبرر الصمت عنه.
لذلك يجب أن يتم العمل على تطبيق التوصيات الآتي ذكرها:
تفعيل القانون بشكل صارم: تفعيل القانون عدد 58 بشكل كامل، وتوفير الموارد الضرورية لتنفيذه مع ضرورة تعزيز تكوين القضاة والأمنيين على آليات تطبيق القانون، وضمان متابعة قضائية فعالة وحازمة ضد المعتدين.
نشر الوعي والتثقيف الجنسي: ضرورة إدراج التربية الجنسية في المناهج التعليمية وتكثيف الحملات الإعلامية في جميع الجهات.
تحسين الخدمات الصحية: دعم مراكز الصحة الإنجابية وتدريب العاملين فيها على مقاربة النوع والخصوصية الثقافية.
تعزيز خدمات الدعم: زيادة عدد مراكز الإيواء وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي للنساء المعنفات، مع تركيز خاص على المناطق الداخلية والهشة.
حملات توعية مستمرة: تكثيف حملات التوعية القانونية والاجتماعية لتغيير العقليات الذكورية، وتشجيع النساء على التبليغ وطلب الحماية مع تعزيز التربية على المساواة ورفض العنف في المناهج التعليمية.
تحسين التعامل الأمني: تدريب الأجهزة الأمنية على احترام حقوق النساء وضمان بيئة آمنة للتبليغ والمتابعة.
تعزيز الشراكة مع المجتمع المدني: إشراك الجمعيات النسوية في تصميم البرامج والسياسات الصحية.
لا يمكن الحديث عن كرامة النساء أو العدالة الاجتماعية دون ضمان حقهن في التمتع بصحة جنسية وإنجابية آمنة، حرة، ومبنية على الاحترام. إنّ العنف القائم على النوع الاجتماعي ليس فقط انتهاكًا فرديًا، بل تهديد حقيقي للسلم المجتمعي. آن الأوان لمجابهة هذا العنف بجديّة، وضمان بيئة قانونية ومجتمعية تُمكّن كل امرأة وفتاة في تونس من أن تعيش حياتها بأمان وصحة وحرية.
عمل صحفي: حيدر القصابي
تحرير : الصحفية يسرى رياحي